قصص أمهات

أبي الحبيب.. ما زلت أذكر تفاصيل حضورك

أبي الحبيب.. ما زلت أذكر تفاصيل حضورك
النشر : أغسطس 21 , 2020
آخر تحديث : مايو 27 , 2021
د. نرمين  حاصلة على بكالوريوس طب بشري جامعة المنصورة في تخصص طب الأسرة. كما أنها أخصائية تعديل سلوك معتمد من جامعة عين... المزيد

اعتاد والدي أن يقدم لنا الفاكهة مقطعة لمكعبات متناسقة صغيرة مرتبة بطريقة بديعة، يتفنن فيها بشكلٍ مختلف كل مرة، تختلف الأصناف في الطبق حسب المتاح في المنزل، يزيلُ القشور والبذور ويقضي في ذلك وقتاً طويلاً بلا تذمر أو كلل. 

لم يتوقف أبداً عن تلك العادة المقدسة حتى نسيت أن للفاكهة قشور وبذور ونسيتُ شكلها الأصلي!

إلى أن اشتد به المرض في عامه الأخير..

أتذكر ذلك كله الآن والمرارة تعتصر قلبي، وأتذكر جيداً كيف كنت أرى ذلك العمل الرائع تافهاً ومضجراً، وأتعجب في داخلي.. لماذا يصر أن نتناول الفاكهة كل يوم؟! ولماذا ينفقُ كل هذا الوقت في ذلك العمل الرتيب الذي كان بنظري وقتها غير مجدٍ.. بل ممل ومضيعة للوقت!

لم ألاحظ حينها ذلك التنسيق البديع الذي كان يخترعه كل يوم، ولا ذلك الجمال الذي كان يصنعه في كل طبق. 


انظري أيضا: صورة تشعل مواقع التواصل الاجتماعي لأب وطفلته من غزة
 

وأستطيع الآن أن أشعر بحسرته عندما كنتُ أتناول الطبق بضجر دون شكر أو اهتمام، بل وأحياناً كنتُ أرفض تناول الفاكهة كنوع من التمرد الأرعن الذي رافقني في سنوات شبابي!

توفي والدي بعد زواجي بأسبوعين، بعد عامٍ من المرض وملازمة الفراش والتنقل بين المستشفيات، تاركاً طفلة لم أعد أتذكرها الآن إلا أنني في كل لحظه أكتشفُ أنها مازالت تختبئ في مكان ما تحركني و تتحكم في كل مشاعري وأفعالي!

...

بدأ صغيري في اكتشاف الفاكهة منذ عامين تقريباً، أحبها كثيراً بأنواعها وأسمائها المختلفة، فبدأت الفاكهة تدخل إلى بيتنا تدريجياً، أغسلها وأقشرها وأقطعها لمكعبات صغيرة وأشكال لطيفة، أراقب بفرح سعادته الغامرة بذلك الطبق الدافئ وابتسامته الشاكرة..

أعوام وأنا أرفض تماماً تناول الفاكهة! أتملص منها في كل وقت وكل مناسبة، كلما تناولتها من باب المجاملة أشعر وكأنني أتجرعها بألم وحسرة لا أفهم سببها! 

إلى أن بدأت والدتي هذا العام ونحن في زيارة لها في تقطيع الفاكهة لتميم كما كان يفعل والدي على نفس الطاولة وفي نفس الأطباق، ناولتني طبقاً وهي تنتظر مني أن أرفضه كعادتي، لكن لدهشتها طرتُ به فرحاً حتى كدت أحتضنه وأبكي..

ذلك الطبق الذي رفضتهُ مراراً لأعوام لماذا لم يخبرني شيئاً عن المستقبل، لماذا لم يخبرني أنه يوماً ما سيصبح أمنية!

...

تذكرت ذلك كله دفعةً واحدةً اليوم بينما كنت أقطع لصغيري الفاكهة لمكعبات صغيرة متناسقة، أزيل البذور و أتحرى مواضعها جيداً وأتفنن في تنوع الأصناف وتنسيق الطبق حسب الألوان.

أخذت أحدث نفسي كم أن ذلك العمل ممل ويستغرق وقتاً طويلاً إلا انني لا أستطيع التوقف لسبب ما لا أفهمه، بل ولا أفهم لماذا بدأت تلك المهمة الغريبة من الأساس!

اكتشفتُ أني أصبحتُ أتذوق الفاكهة أحياناً وأنا أقطعها لصغيري، ولا أخصص لنفسي منها نصيباً كأني أعاقب نفسي دون أن أشعر، بالتدريج تخطيتُ رفضي لكل الفاكهة تقريباً، وحده البطيخ لم أستطع رؤيته أو التعامل معه!


انظري أيضاً: لكي لا نختلف كأبوين: لنتفق على أسس لتربية أبنائنا


يذكرني دفعةً واحدة بكل الطقوس الطفولية.. احتفالنا بالبطيخة الغامضة المستديرة، جلوسنا حول والدي نراقب مهارته في تقطيعها وانتقاء القطع الناضجة الحلوة، وإزالة البذور تماماً ثم توزيع الحصص بالتساوي. 

تلك الفاكهة اللطيفة تثير في داخلي غصة كبيرة، لم أعد أتناولها نهائياً برغم عشق صغيري لها وأرفض حتى رؤيتها، وأتنصل من كل محاولات جدة صغيري لأبيه أن تعطيني بطيخة صغيرة لأقطعها لصغيري لأنه يحبها. 

أتذرع بكثيرٍ من الحجج الواهية في كل مرة، إلى أن فاجأتني يوماً ما بطبقٍ كبيرٍ من البطيخ المقطع منزوع البذر تقريباً، أهدتني إياه فجأة مبتسمةً أنهُ هدية للصغير!

فقدت أعصابي تماماً وأنا أمسكُ ذلك الطبق! وجدتني أتذوق تلك الفاكهة لأول مرة منذ ستة أعوام!

وبعد أن رأت سعادتي بالطبق، صارت كلما قطعت بطيخاً صنعت لي طبقا منسقاً بعناية كبيرة منزوع البذر تقريباً، كهدية لصغيري، دون أن تعرف أبداً قدر الدفء الذي يدخله ذلك الطبق إلى قلبي كل مرة، ولا كيف استطاعت أن تسعد فتاةً صغيرة مرتبكة تحن إلى أبيها وتختبئ عميقاً وراء أمومتها!

...

كثيراً ما يأتينا الدفء من حيث لا نحتسب، وكثيراً ما نختبئ من أشياء تحزننا دون أن ننتبه، وهناك الكثير من الأخطاء نرتكبها دون أن ندري، قد نكتشفها بعد عشرة أعوام وقد لا نكتشفها أبداً..

وهناك أيضاً الكثير من النعم لا نلاحظها ولا نمتن لوجودها حتى تزول! وكثيرٌ من الأمور العادية جداً في حياتنا لا نعدها من النعم، والحقيقة أنها لا تقدر بثمن!

قدروا نعمكم مهما صغرت.. وامتنوا لأهاليكم ومحاولاتهم البسيطة لإسعادكم..

لا تدري نفس ماذا تكسب غداً، ولا ما تخبئه لنا الأيام!

مواضيع قد تهمك

الأكثر شعبية