مذكرات

في غزة... سرعان ما تحول حلمي إلى كابوس!

في غزة... سرعان ما تحول حلمي إلى كابوس!
النشر : نوفمبر 16 , 2023
آخر تحديث : نوفمبر 20 , 2023

أنا شيرين عمري 28 سنة من مدينة غزة المحاصرة، كنت أحاول تأسيس مشروعي الخاص الهادف لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، والعمل على تمكين معلمات اللغة العربية لإيجاد فرص عمل وكسب دخل لهن ولأسرهن، في ظل شح فرص العمل للخريجين والخريجات في غزة.

الشهر الماضي- سبتمبر 2023-،تمت دعوتي من قبل مؤسسة دولية للانضمام إلى رحلة تعليمية لرياديات الأعمال الفلسطينيات، قمت بزيارة ألمانيا لأول مرة في حياتي، قابلت الكثير من النساء الملهمات، وعدت إلى مدينتي غزة متحمسة جداً لإطلاق مشروعي وتحقيق جزء من أحلامي، ولكن سرعان ما تحول الحلم والحماس إلى كابوس ومعاناة!

وضعت الكثير من الخطط لشهر أكتوبر، لكن باتت خطتي الوحيدة الآن هي البقاء والنجاة من هذه الإبادة والعيش بهدوء وسلام أنا وعائلتي.

 

شهد العالم أجمع ما حدث في السابع من أكتوبر، لكن أبداً لم يشاهدوا معاناتنا طيلة السنوات الماضية، لم يعلم العالم أننا شهدنا الحروب في طفولتنا، لم ننعم بالسلام كباقي أطفال العالم، رأينا الكثير من المعاناة التي يصعب إيجازها في فقرة أو صفحة، وأصبحت شابة ولا زلت أرى المعاناة والحروب التي لم ترو لكم الصحف تفاصيلها، ما يصلكم هو العناوين فقط!

 

أما تفاصيل المعاناة والمشاهد التي نعيشها نحن من نستطيع روايتها، منذ اليوم الاول من الحرب، اعتقد العالم بأنها مثل الحروب السابقة لكنهم لا يعلمون بأنها إبادة جماعية، هجوم انتقامي، ليس من حماس كما يدعون، بل من المدنيين، الاحتلال لديه من العدة والعتاد والأسلحة ما يمكنهم من اغتيال من يريدون دون إلحاق الضرر بالمدنيين من الأطفال والنساء، ولكنهم تعمدوا هذه الإبادة الجماعية والعقاب الجماعي على مسمع ومرأى العالم أجمع ولم يمتنعوا عن استخدام الأسلحة المحرمة دولياً.

غزة الفسفور الابيض أسلحة محرمة

شهدنا الكثير من الحروب واعتدنا على سماع أنواع متعددة من القذائف، لكن المستخدمة في هذه الحرب مختلفة تماماً، حتى أنها تترك الشهداء أشلاء أو أجسام محروقة، وكأنها تحتوي على كيماويات مشتعلة، القذيفة الواحدة تستطيع تدمير حي بأكمله، و هذا ما يوقع الكثير من الضحايا في المنزل المستهدف والمنازل المجاورة أيضاً، المشهد أعظم مما تشاهدونه على التلفاز والصوت مزلزل، نسمع الصوت ونشعر وكأنه زلزال أصاب المنزل، تتشقق الجدران، تتكسر النوافذ، نشعر بضغط الهواء الذي يحرك اجسامنا بشكل لا إرادي، لا أحد سيشعر بما نشعر به الا بعد التجربة، وأنا لا أتمنى هذه التجربة لأي أحد في العالم، لأنها قاسية جداً واجرامية وغير إنسانية.

 

بدأت رحلة التنقل والنزوح...


قاموا بقصف الحي الذي أسكن به، بالبراميل المتفجرة والحزام الناري، كنا نجلس أنا وأسرتي وأطفالنا في زاوية في المنزل، حتى إن متنا نموت سوياً، ابن أختي الأكبر قال لوالدته "ماما أنا ما بدي أستشهد" أوجعني كثيراً ما قاله، وأن أطفالنا يعيشون هذا الألم وهذا الخوف. قمنا أنا وأسرتي بالانتقال تحت القصف ليلاً من منزلنا إلى منزل آخر في حي آخر.

وجدنا بأن هناك خطر أيضاً، حيث لا مكان آمن في غزة، قمنا بالنزوح مجدداً الى منزل آخر في حي آخر، حتى قاموا بإنذار جميع سكان غزة بالنزوح إلى جنوب القطاع. 

منشور جيش الاحتلال الاسرائيلي لاهل غزة في شمال القطاع

فقمنا أنا وتسع أفراد من أسرتي وثمانية أطفال ببدء النزوح، لكننا لم نستطع إيجاد أي وسيلة نقل لإيصالنا إلى الجنوب، فحركة المواصلات مشلولة تماماً في غزة، فبدأنا بالمشي في الشوارع تحت القصف، حتى نتمكن من العثور على سيارة، لكن لم نجد، اشتد القصف، فلجأنا إلى احدى المستشفيات في غزة، وجدنا هناك العديد من النازحين إليها. وهناك رأينا مشاهد مروعة لم نتمكن من حجب أعين أطفالنا عن رؤيتها من آثار قصف لمنازل فيها عائلات.

للأسف لم نتمكن من العثور على سيارة، بقينا عالقين في المستشفى نجلس على الأرض، لا نستطيع النوم ولا نستطيع دخول الحمام لأنه كان مزدحم جداً حيث يصطف العديد من النازحين أمامه، وصوت القصف يدوي في كل صوب حول المستشفى، وأطفالنا ملقون على الأرض دون غطاء، كنا نعد الثواني والساعات كي يأتي النهار.

تمكنّا صباحاً من العثور على سيارتين، بدأنا النزوح، ولكن للأسف في الطريق تعطلت السيارتين وقمنا بإصلاحهما مرات عديدة، دعونا كثيراً كي تسير السيارات، رأينا مشاهد مبكية للناس وللقافلة التي سبقتنا النزوح في اليوم السابق والتي تم استهدافها من قبل الاحتلال، وصلنا للجنوب بعد عناء، وردتنا أخبار بأن منزلنا تهدم بفعل القصف الشديد والمتكرر في المنطقة.

 

قمت بسؤال ابنة أختي التي تبلغ من العمر تلات سنوات، أين دميتك الباربي التي قمت بشرائها لها من المانيا، فردت قائلة لقد قصفوها، لا أعلم كيف سنحمي أطفالنا، لا يوجد لدينا ملاجئ أو مخابئ، حتى بعد نزوحنا الى الجنوب، لم نسلم من القصف المحيط بنا في كل مكان، حقاً لا يوجد مكان خالي من الغارات او القصف، كل القطاع تحت القصف، المستشفيات، المسعفين، الاعلاميين، المساجد والكنائس، حتى المخابز والمولات التي يتوافد عليها الكثير من الناس للحصول على الخبز والأكل.

 

تخيل معي حقيقة ما نمر به...

تخيل... بأن تستيقظ الساعة الرابعة فجراً حتى تكون أول الصافين في طابور أمام أحد المخابز؟ (في احدى الأيام استيقظنا لم نجد والدتنا في المنزل الذي نزحنا اليه، أدركنا بانها ذهبت لكي تصطف في طابور المخبز وكان هناك قصف عنيف في المنطقة، أخافتنا كثيراً، ودعونا الله كثيراً بأن ينجيها ويردها لنا سالمة، و الحمد لله عادت وأخبرتنا عما حدث معها) أو أن تمشي أكثر من 6 كم تحت القصف حتى تقوم بتعبئة مياه صالحة للشرب أو حتى غير صالحة للشرب؟ (قبل يومين توفى أحد الأشخاص بسبب سقوطه من أعلى سطح المنزل حيث كان يحاول تعبئة الماء لأسرته)

طابور المخبز في غزة خلال عدوان 2023

لقد قضيت يومين بدون شرب الماء لقلته، تخيل بأننا خرجنا من منازلنا لا نملك الا الملابس التي خرجنا بها؟ وتركنا كل شيء خلفنا!

تخيل... بأن طفلك يمرض ولا تستطيع ايجاد الدواء له! (طيلة أيام الحرب يعاني أطفالنا من السخونة وألم المعدة والتسلخات الجلدية)

تخيل...أنك تبحث عن أي مكان يوجد به طاقة شمسية حتى تتمكن من شحن الهواتف وبطاريات الاضاءة؟ تخيل بأن تفقد الاتصال بأقاربك وأصدقائك والعالم، بسبب قطع الكهرباء والانترنت والشبكة، لا تستطيع أن تعلم ما يحدث حولك، لا نستطيع الاتصال بالدفاع المدني او الإسعاف.

تخيل... بأننا لا نستطيع طهي الطعام لعدم وجود غاز الطهي، وبالكاد نستطيع إشعال الحطب للطهي والخبز، خوفاً من السماء الملبدة بالطائرات.

 

تخيل... بأن البضاعة التي كانت متواجدة في المحال التجارية نفذت، وبأن أسعار ما تبقى من طعام تضاعف أربع مرات عن سعره الطبيعي.

تخيل... بأنني وأسرتي قمنا بالنزوح ثمانية مرات، عشنا كل أنواع النزوح، في المستشفى وفي الخيام وفي المنازل المكدسة بالنازحين؟

تخيل... بأن هناك الآلاف من الناس والمفقودين تحت الأنقاض، تخيل بأن هناك جثث لم يتم دفنها وجثث ملقاة في الطرقات، تخيل تعطل مضخات الصرف الصحي وحجم الكارثة البيئية والصحية التي نعيشها، تخيل حجم مخلفات الحرب من القذائف المحرمة دولياً والفسفور، تخيل أن كل هذا واقعنا وليس خيال..

تخيل... بأننا نكره قدوم الليل، لأن فيه تتضاعف الهجمات على القطاع ويتضاعف الرعب والخوف، لا نستطيع النوم وإن نمنا فلا ننام هانئين، نسمع الصوت المزلزل للمنزل، وصوت صراخ أطفالنا وبكائهم من هول ما يسمعون، والرائحة التي نشمها والدخان والغبار الذي يعم أجواء المنزل..

تخيل... بأنك ترى المنازل المجاورة لك تسقط بشكل مفاجئ فوق رؤوس ساكنيها من النساء والأطفال والشيوخ، تخيل بأن ترى جثث وأشلاء لأطفال ونساء تحت الركام، ومصابين أجسامهم تحترق.

منازل قصفت في غزة

تخيل... بأننا لم نعتاد، تخيل بأننا رغم كل هذا نستيقظ على أمل بأن يتوقف هذا الكابوس وأن تتوقف هذه الابادة، أن يرانا العالم ويوقف هذه الحرب، أشعر وكأن العالم صم أو عمي أو كأنهم يشاهدون مسلسل خيالي ولا يتحركون ساكناً، وكأنهم لا يمتلكون قلباً يشعر أو عيناً ترى المجازر والجرائم، حكام الدول تدين وتندد وترفض وتسمح، كلها شعارات وخطابات لم تجدِ نفعاً، لم تتوقف هذه الابادة، لم يوقفوا هذا رغم أنهم قادرون على ذلك!!

لا أحد يشعر بما نشعر به، لأن لا أحد يعيش ما نعيشه، أو يمر بما نمر به...

كل من لا يريد إيقاف الحرب عليه بأن يغمض عينيه ويتخيل بأن أسرته تحت الركام وزوجته وأبنائه أشلاء، من ثم يفتح عينيه ويرى بأن هذا حال الأطفال والنساء في غزة، يدّعون الإنسانية والسلام والرفق بالحيوان، ولكنهم يسمحون بارتكاب جرائم حرب في غزة، يسمحون بالإبادة الجماعية، ثم يحتفلون على مرأى الشاشات بأنهم استطاعوا إدخال القليل من المساعدات إلى غزة من باب الإنسانية

لا نريد المساعدات، نريد وقف هذه الحرب عاجلاً غير آجل...

 

قصص من واقعنا... لعل وعسى يتحرك العالم!

هل تعلمون كم عدد الشهداء من الأطفال والنساء؟ هل رأيتم جثثهم الأشلاء والمحروقة؟ هل رأيتم المصابين؟

"إحدى النازحات في مستشفى الشفاء أخبرتني بأن هناك مصابين يخرج من مكان إصابتهم الديدان بسبب عدم تمكن الطاقم الطبي من المتابعة بسبب عدد المصابين المهول "

هل رأيتم المستشفيات التي تجري العمليات بإضاءة الهاتف الخلوي، وتستخدم الخل للتعقيم؟ هل رأيتم عدد مرضى السرطان والأمراض المزمنة والأطفال حديثي الولادة في الحاضنات؟ عدد النساء الحوامل وعدد الأطفال الذين وُلدوا في الحرب؟

لا أعلم إن كنتم ترون أو حتى تتخيلون حجم الكارثة الإنسانية والبيئية التي يتعرض لها سكان القطاع!

هل رأيتم حجم الدمار الذي خلفه الاحتلال في كل المنشآت المدنية والبنوك مما تسبب بقطع كافة الخدمات؟ هل رأيتم عدد النازحين بالمدارس والمستشفيات والخيم؟ هل رأيتم التغريبة الفلسطينية وذل النزوح؟

نزوح اهل غزة

"إحدى الأمهات النازحة مؤخراً روت ما حدث معها في طريق النزوح أو "الممر الآمن" كما يسمونه، حيث قام أحد أطفالها بسؤالها: "يما أنا تعبت وأنا رافع إيديا، لو نزلتهم بطخوني؟"، كما أخبروني بأنهم شاهدوا أشلاء ملقاة في الطريق."

كم حمدت الله لأننا نزحنا مبكراً، حمدت الله أيضاً لأنني لم أتزوج وليس لدي أطفال، لن أطيق عليهم هذا كله، أرى معاناة خواتي المتزوجات مع أطفالهم، ومحاولاتهم العديدة للتخفيف عن أطفالهم وتوفير احتياجاتهم الأساسية رغم ضعف الإمكانيات وسوء الوضع، لدينا ثمان أطفال، أكبرهم عزمي يبلغ ست سنوات، عيد ميلاده السادس في 27 أكتوبر، طالب والدته بالاحتفال وجلب الهدايا كالمعتاد، وأخبرته إذا انتهت الحرب فسنقوم بذلك.

أصغر أطفالنا الرضيعة يُمنى تبلغ أربعة شهور، تبتسم لنا كثيراً وتحيي الأمل فينا مع كل ابتسامة، أشعر بأنها تدرك بأن المشاهد اختلفت، قمت بالتقاط صور لها أثناء نزوحنا إلى المشفى، حيث كانت تنظر إلى الناس حولنا محدقة عينيها وكأنها تتساءل ماذا يحدث؟ من الذي جاء بهؤلاء؟ أين أنا؟ ما هذا العدد المهول من الناس؟ لماذا نحن هنا؟ ماذا يجري؟ اختلف عليها المكان والمشاهد والناس والبيئة المحيطة!

ياسين أيضاً رضيع يبلغ من العمر ثمانية شهور، قبل الحرب اكتشف الطبيب بأن لديه انغلاق مبكر في اليافوخ وتأخر في النمو والاستجابة السمعية والبصرية وارتخاء في العضلات والعمود الفقري، وقام بإجراء العديد من الأشعة، وطلب الطبيب بأن نقوم بإجراء بعض التحاليل التي للأسف غير متوفرة في قطاع غزة، فقام بإحالته الى الضفة الغربية، ولكن حالت الحرب قبل القيام بهذا، وأخته الأكبر سلمى أيضاً مريضة بحاجة للمتابعة والعلاج...

أرى كل يوم حزن أختي وخوفها على طفليها فهما بحاجة إلى متابعة حالتهم الصحية وإكمال علاجهم في الخارج، أرى أخواتي وهن يقمن بالاعتذار من أطفالهن كل يوم: "أنا آسفة إني عيشتكم هذه الظروف"

أسعد اللحظات التي أعيشها معهم...

عندما أقوم بفتح ستوديو الصور في هاتفي وأنادي عليهم "مين بدو يشوف صوره؟" يتسابقون من سيجلس بجواري ويكون الأقرب للهاتف، نقوم بتصفح صورنا ما قبل الحرب، ونتذكر سوياً المنزل وما به من ذكريات والمناسبات التي التقطنا فيها هذه الصور، وأقوم باختبار ذاكرتهم "وين هادي الصورة" "سرير مين هاد" "هاد الشارع وين"، كثيراً ما أسمع منهم هذه الجملة "بدنا نروّح"

 

أحدثكم عن والدتي أيضاً التي أخبرتنا مؤخراً عن نيتها لأداء مناسك العمرة أو الحج، وأنها قد همّت سابقاً بادخار القليل من المال حتى يتسنى لها أداء العمرة، ولكن للأسف في ظل هذه الظروف العصيبة قامت بصرف كل المبلغ الذي بحوزتها، شعرت بالحزن كثيراً عندما أخبرتني بذلك، ودعوت الله أن يسلمنا وينجينا كي أحقق رغبة أمي في أداء العمرة.

هذه قصتي إلى اليوم! إن أحيانا الله غداً سأكملها لكم...

 

*الصور مختارة من مواقع اخبارية وهي تعبيرية لتقريب الرواية إلى القارىء.

مواضيع قد تهمك

الأكثر شعبية