قصص أمهات

قصة أم: صبرٌ وانتظار ومعجزة صغيرة

قصة أم: صبرٌ وانتظار ومعجزة صغيرة
النشر : يوليو 11 , 2020
آخر تحديث : سبتمبر 25 , 2023
د. نرمين  حاصلة على بكالوريوس طب بشري جامعة المنصورة في تخصص طب الأسرة. كما أنها أخصائية تعديل سلوك معتمد من جامعة عين... المزيد

تتسارع دقات قلبها بعنف، يزداد توترها بازدياد إيقاع الأغاني حولها، صديقاتها حولها منشغلات في الرقص والضحك احتفالاً بزفاف صديقتهن القريب دون أن يلاحظن شيئاً مما يعصفُ بها!

تبادلهنَّ الابتسامات متعجبةً كيف لا يسمعن دقات قلبها الصارخة؟ كيف لا يلاحظن انتفاضات جسدها العنيفة؟!

هناك شيءٌ ما سيحدث بالتأكيد، ولن يكون جيداً، تشعر بذلك تماماً في كل ذرةٍ في كيانها!

لم تكن الشهور الست الأخيرة هينةً على الإطلاق، فمنذ احتل ذلك الزائر اللطيف أحشاءها وهي لم تذق نوماً ولا راحة، ولم تتذوق طعاماً!

شهورٌ من القيء المستمر والغثيان الذي لا ينتهي أبداً، مروراً بنوبات الهلع والاكتئاب، انتهاءً بضغط الدم المرتفع!

ولسوءِ حظها حدثت أزمة في تصنيع وتوفير الدواء الذي يساعدها في كل هذا، لتكتمل الملحمة، ويصبح كل شيءٍ عسيراً على النفس، عصيًّا على التصديق.. أن يجتمع كل هذا ليحدث لشخصٍ واحد!

...

بدأت الصور تتداخل أمام عينيها! بالتأكيد سيحدث شيءٌ ما، أصبحت واثقةً الآن أن ذلك اليوم لن ينتهي أبداً على ما يرام!

غادرتهم سريعاً لتذهب إلى الطبيبة بدون موعدٍ مسبق، لتخبرها أنها يجب أن تضع طفلها خلال ساعات! كانت تعرف احتمالية تعرضها لولادة مبكرة منذ بداية الحمل، لكنها لم تكن تتخيل حجم صدمتها الحالية عندما عرفت أنها ستضع طفلها اليوم في شهره السابع!

توقف عقلها فجأة! ماذا ستفعل! ماذا سيكون مصير ذلك الطفل! هل حقاً ستصبح أماً! هل سينجو!

ساعات قليلة مرت في توتر ورعب وخوف، وفي النهاية وسط دعاء الأهل والأصدقاء ولدت "معجزتها الصغيرة"!

رضيعٌ بحجم كف اليد يزن كيلوجراماً واحداً فقط، وكأنه قطعة لحمٍ غضة غير مكتملة النمو تصارع للتنفس، تجاهد لتفسح لنفسها موطئاً في هذا العالم القاسي، تنازع لتجد مكاناً مناسباً وسط عجز في أماكن استضافة الخدج، وارتفاع تكلفة الإقامة والقلق من مدى كفاية الرعاية لحالته وحاجته الخاصة.. والكثير من المخاوف التي تحيط بحالته الحرجة وصغر سنه وعدم اكتمال رئتيه!

طفل حديث ولادة مع أمه في المستشفى

في النهاية استقر به المقام في إحدى مراكز رعاية الرضع الخدج على جهاز التنفس، انتهى به يومه الأول متصلاً بالكثير من الأنابيب بعيداً عن والدته التي مازالت تحاول أن تفيق بعد معجزةٍ إلهية قدرت لها النجاة من تسمم حمل وشيك!

 

في اليوم التالي غادرت المشفى بقلب راجف وجسدٍ فارغ من روح صغيرة كانت تسكنه، وعقل يجاهد ليستوعب ما حدث في الساعات الماضية!

وصلت المنزل لتستقبلها الملابس الصغيرة المتناثرة في كل مكان، والتي لم يسعفها الوقت لترتيبها في غرفته، الأغراض التي اشترتها خلال الشهور الماضية استعداداً لاستقباله. 

فرشاة الشعر الصغيرة، الوسادة اللطيفة، سمكة برتقالية صغيرة للغاية تشبه الشخصية الكرتونية اللطيفة " نيمو" والتي مازالت حيث تركتها على فراشها حين كانت تتأملها.

أمسكت بتلك السمكة التي كانت تنظر لها مبتسمةً مواسية، لم تكن قد رأت صغيرها بعد لكنها شعرت أن تلك السمكة الصغيرة تشبهه، لذا قررت تسميته "نيمو" تمينا َ بتلك السمكة البرتقالية الشجاعة المقاتلة التي استطاعت إيجاد والدها في النهاية برغم كل شيء، وقطعت معه المحيط كاملاً! عل "معجزتها الصغيرة" تحذو حذوها وتقاتل لتنجو وتعود لأحضانها في النهاية!

طفل حديث ولادة مع أمه في المستشفى


غفت ممسكةً بالدمية الصغيرة لتستيقظ مساءً لتجد كل شيء يصمت من حولها ما عدا ذلك الصوت.. صوت قلبها الذي يصرخ متألماً، يسأل عن مصير صغيرها؟

لم تستطع أن تحدد ماذا كان يؤلمها أكثر! أهو جرح قلبها أم جرح ولادتها القيصرية!

في النهاية كل شيء كان يؤلمها حداً يفوق البكاء ويعجزها عن التنفس، حتي تلك الملابس الصغيرة المتناثرة حولها تتساءل عن مصير صاحبها في صمت يؤلمها أكثر.

"لا بد أن أراه" قفزت تلك الفكرة لعقلها فجأة!

ولم تهدأ أبداً، حاولت أن تنهض وحدها فلم تستطع! برغم ذلك كان لابد لها أن تحاول حتى تنجح ما دامت تريد أن تراه، مادامت تتمنى ان يقاتل هو فعليها أن تقاتل أيضاً لتكون في جواره!

نهضت أخيراً منتصرةً على جسدها معلنةً رغبتها في الذهاب لرؤية طفلها في مركز الرعاية، ليواجهها رفض كبير من قبل والدتها وزوجها لطفاً بقلبها وبحالتها الصحية التي لم تستقر بعد!

لكنها لم تكن تسمع أو ترى شيئاً سوى ذلك الصدى في قلبها الفارغ يتردد بلا نهاية " لا بد أن اراه".

ارتدت ملابسها بمعاونة والدتها، ومشت الشارع لأول مرة بدون بطنها المستدير الثقيل لتبدأ رحلتها المجهولة التي لم تكن تعلم لها نهاية!

وكان اللقاء الأول!

بحكم عملها السابق كطبيبة في إحدى حضانات الأطفال رأت كثيراً منهم، الخدج، والرضع، المرضى والأصحاء، لكن لم يسبق لأحد منهم أن سكن قلبها وجاور روحها لسبعة أشهر كاملة، لم تذق فيها نوماً ليلاً أو نهار!

طفل حديث ولادة مع أمه في المستشفى

كان متصلاً بأسلاك تفوقه حجماً، يتنفس من أنبوب، عيناه مغطاة بقناع، يرقد في استكانةٍ سابحاً في حفاظته الصغيرة داخل غرفة زجاجية فيها فتحة دائرية تكفي لإدخال يد واحدة فقط.. كان صغيراً جداً.. أصغر مما تخيلت بكثير!

لم تستطع لمسه! فقط وقفت تنظر إليه ذاهلةً في صمت من وراء الجدران الزجاجية، لن تستطيع حمله بالطبع ولا ضمه إلى صدرها.

لمست يده الضعيفة بإصبع واحد مرتعش، فقط لتتأكد أنه حقيقي انه حقاً هنا! لا تدري حتى إن كان يشعر بها أو بوجودها، لكنها قررت أنها ستكون دائماً إلى جواره وإن لم يكن لوجودها داعٍ!

انتظرها الجميع لتبكي.. لتتكلم، لكنها ظلت مبتسمة في صمت، تحملق في ذلك الجسد الصغير، تتحسس تلك الأصابع الدقيقة لتشعر بقليل من الدفء ليطمئن قلبها ولو قليلاً أن صغيرها مازال هنا، ولو من وراء جدران زجاجية. 

ظل الصدى يتردد في داخلها عميقاً: "لن أتخلى أبداً عنك! مهما طال الطريق! مهما كلفني الأمر!"

وما هي إلا دقائق حتى طلب منها طاقم التمريض أن تترك الغرفة فتركتها مرغمة، تقدم رجلاً وتؤخر أخرى.

كان الوضع خارج تلك الغرفة الصغيرة جنونياً! مما اضطرها لإغلاق هاتفها منذ غادرت المشفى، البعض كان يهنئها بالمولود في سعادة بالغة، ويتساءلون عن اسمه بل ويمازحونها فيقولون أنه أصبح "ابن سبعة" ولابد أنه سيكون صعب المراس!

وآخرون يذكرونها بإجراءات إجازة الولادة، أما المقربون أكثر فيواسونها في شفقة لا تحتملها، منهم من يطمئنها، ومنهم من ينصحها أن تكون عقلانية وألا تتعلق به كثيراً.. فاحتمالات النجاة ضعيفة!

وبحكم عملها كانت تعرف ذلك جيداً في داخلها، وإن لم تعترف به ولن تعترف به أبداً! تؤمن بكل جوارحها أن صغيرها سيعبر المحيط! سيسبح وينجو ليعود لأحضانها ثانيةً مهما طال الوقت!..

لم تكن تعرف أن تلك الزيارة القصيرة كانت فقط البداية لشهرين كاملين من الخوف والألم والضياع!

تارةً يغمرها الأمل حين يُجمع الأطباء أن حالته تتحسن، وفجأة يتدهور كل شيء فتسقط ضائعة ًفي هوة اليأس، ثم تُفيق في فزع لاحتمال أن يكون بصره قد تأثر من طول مدة بقائه متصلاً بالأكسجين، فتقضي أياماً متتالية لا تنام ولا تأكل منتظرةً النتيجة.

تتضارب في داخل رأسها الاحتمالات المرعبة في عنف! حتى يطمئن قلبها بظهور نتائج مبشرة أن بصره سليم معافىً بمشيئة الله وفضله.. ثم تعود مرةً أخرى لدوامة الأمل واليأس التي لا تنتهي!

كانت تقضي يومها كله تقريباً في المستشفى، هاتفها مغلق، لا تعرف الكثير عن أي شيء خارج تلك الجدران الزجاجية التي تعرفت فيها إلى عالم كامل لم تكن تعرفه من قبل!

عشرات من الحالات التي تتشابه أو تختلف مع حالة صغيرها، لكنها تجتمع في نظرات عيون الأهل الزائغة، دقات القلب المتلهفة التي تكاد تسمع عن بعد!

صغار يتحسنون فجأة ويودعون الجدران الزجاجية عائدين لأحضان ذويهم، وآخرون تسوء حالتهم فجأة فيغادرون العالم قبل أن يدخلوه، تاركين قلوباً ثكلى تبكي فراقهم قبل احتضانهم!

طفل حديث ولادة مع والدته في المستشفى

أصبح ذلك المشفى بيتها، والممرضون المسؤولون عن صغيرها عائلتها والأهالي أصدقاءها، لم تعد تتذكر أي شيءٍ قبل تلك الأيام، لا تفكر في شيءٍ غير ذلك الجسد الصغير المستسلم المتصل بالأنابيب.

تقضي الوقت الذي لا تكون فيه معه في المستشفى تشتري له ألعاباً، تكمل ما يلزمه من ملابس وتزين غرفته بالملصقات اللطيفة.. حتى أنها أعادت طلاء سريره الصغير بنفسها.

كانت تفعل أي شيء يقتل الوقت لتتغلب على وقع دقات الساعة القاسية على نفسها، فهي لم تعد تعرف ما اليوم ولا التاريخ.. فما الفرق؟! هو فقط يومٌ آخر لن تستطيع احتضان صغيرها فيه!

...

إلى أن أشرقت شمس يوم مذهل استحق كل ما بذلته من صبر وانتظار..

تحسن كل شيء فجأة دون تفسير طبي واضح، رغم كل التوقعات والتكهنات والقلق استطاع الصغير أخيراً أن يتنفس بمفرده من إحدى فتحات أنفه، كان ذلك إعجازا عظيماً لم يتوقعه أحد!

لم تصدق ذلك الهاتف الذي حمل لها الخبر! وقفت تحملق في الفراغ ذاهلة، سأحمله بين ذراعي اليوم! سيأتي لمنزلنا اليوم!

طفل سعيد يحتفل بيوم ميلاده

ارتدت ملابسها سريعاً، ومرت الساعات التالية كثانيةٍ واحدة أو أقل، لم تكن ترى أو تسمع أي شيء يحدث حولها! استعادت إدراكها فجأة لتجد صغيراً أحمر اللون يبكي بلا صوت بين ذراعيها، غارقاً في ملابسه الصغيرة لا يكاد يظهر منه شيء!

كانت تسمع دقات قلبها المتلاحقة بوضوح وهي تطغى على كل شيء، ربت زوجها على كتفها برفق يطمئنها "أصبح لدينا الآن معجزة صغيرة". لقد سبح نيمو وحده وعبر المحيط وعاد إليك من جديد..

"نديم"

قطعت حديثه بصوت مرتعش فنظر إليها مستفهماً لتكمل..

" اسميته نديم.. ليكون رفيقنا في الدنيا والجنة"

...

مر عامان على ذلك المشهد ومازالت كلما تتذكره يدق قلبها بعنف!

لم تكن الرحلة بعد ذلك سهلة، لكنها كانت تهون بوجود "معجزتها الصغيرة".. فقد فقدت والدها وأخاها فجأة وبشكل مؤسف دون أن تستوعب إلى الآن ذلك، لكن معجتها الصغيرة.. "نديم" كان السبب الوحيد الذي انتشلها من أعتاب الجنون مرات ومرات>

فهو من تستيقظ لأجله كل يوم لتحاول الاستمرار والمقاومة والحياة من جديد!

أم تنظر لصغيرها بحب

كل ذلك تذكرته دفعةً واحدة بينما تضحك على قفزةٍ مضحكة لصغيرها من فوق إحدى الوسائد التي يواصل رميها على الأرض طوال اليوم، لتعلق لها صديقتها في عجب! إنها معجزة أنك تتحملين كل تلك الشقاوة بصبر كبير!

لتجيبها في شرود .. نعم إنه "معجزتي الصغيرة" و "نديمي" أبد الدهر!

...............  ......  ...............

دائماً ما تفاجؤنا الحياة بما لا نتوقع، وما لا نتخيل أننا نستطيع عليه صبراً يوماً، لكن لطف الله يُدركنا ويُدبر لنا الأمر من حيث لا ندري، فنبصر المنحة في المحنة وإن طال الوقت.

تمرُ الأيام.. لكننا لا ننسى التجربة وما مررنا به، فلا يمرُ الموقف دون عبرة وعظة، نتألم و نبكي لكننا في النهاية نتعلم، لابد من الحزن ليأتي الفرح، ولا مفر من الألم لنتغير!

لكن في النهاية كل مر سيمر، ستشرق الشمس وإن طال الليل، الأيام ستمضي، سننسى ونتعافى وقد نحزن عندما نتذكر الألم ولكن بالتأكيد التألم لا ينفي أبدا التعلم...

"ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وحده الله يدبر الأمر"

كلٌ بقدر فاستعن بالله، واصبر ولا تجزع...

مواضيع قد تهمك

الأكثر شعبية