قصص أمهات

اليوم الذي اكتشفت فيه مرض طفلي غير حياتي

اليوم الذي اكتشفت فيه مرض طفلي غير حياتي
النشر : أبريل 29 , 2020
آخر تحديث : سبتمبر 25 , 2023

بقلم: إسراء صلاح داود – أم لأربعة أطفال وأخصائية تربية خاصة


بدأت قصتي يوم 11/6/2016 في الأسبوع الأول من رمضان، اليوم الذي اكتشفنا به إصابة ابني البكر إسلام ذو العشر سنوات بسرطان الدماغ. كانت قد مرت أسابيع من التدهور العام لصحته حيث قمنا باستشارة أكثر من طبيب لمعرفة سبب هذا التدهور، فكان التشخيص صدمة كبيرة غيرت مجرى حياتي جذرياً!

في اليوم الثاني بعد التشخيص توجهنا لمركز علاج للسرطان، وبعد عرض التقارير والأوراق على الأطباء تم إدخاله فوراً لخطورة وضعه الصحي؛ كان حجم الورم كبيراً (9 سم)، مما سبب ضغطاً كبيراً على الدماغ وزيادة تجمع السائل المخي في حجيرات الدماغ.

قرر الأطباء إجراء عمليتين: الأولى تركيب صمام في الدماغ ومد أنبوب للمعدة لتصريف السائل المخي وتخفيف ضغط الدماغ، وأن تتم العملية الثانية بعد أسبوع - وهي الكبرى - لاستئصال ما يمكن من الورم وأخذ الخزعة لفحصها والتأكد إن كانت سرطانية أم لا.

يوم 13/6/2016 بعد إجراء العملية الأولى بدأ إسلام بالهلوسة ورؤية أشياء غير موجودة في الواقع، ظننت بأن ابني فقد عقله، لم أعلم بأن واقعاً مؤلماً ينتظرني، لاحظت تجنب الأطباء لي وكان تبرير الممرضين بأن تلك الهلوسات تعود للمخدر القوي الذي تم استخدامه في العملية.

كنت أشعر بألم شديد في قلبي وهو يحدثني: "ماما خلفك رجل يضحك... ما هذه الحشرات والسحالي على الجدران؟!! ماما هناك دماء على يدي!!

أذكر وقتها أنني صادفت أحد أطباء فريق جراحة الأعصاب في رواق المستشفى، ركضت نحوه لأستفسر...

سألته: أريد أن أطمئن، لماذا يرى ابني هذه الهلوسات؟!

أجابني ببرود: إنت ِ ما عرفتِ؟ ابنك انعمى!

نزل عليَّ الخبر كالصاعقة... سألته وكلي أمل: هل سيرى مجدداً بعد عملية الاستئصال؟!

قال: ليس من أهداف العملية أن تعود الرؤية لابنك!

انهرت وشعرت بأن السماء طبقت على الأرض، بكيت وصرخت، اتصلت بعائلتي استنجد بهم وحملوني إلى البيت.

لا أحب تذكر ذلك اليوم، تلك الصدمة لو نزلت على جبل لانهار من شدتها، لكني لم أسمح لنفسي بالانهيار أكثر من يوم واحد، عدت في اليوم التالي متماسكة، لم أسمح لمشاعري بالسيطرة عليَّ، كان تفكيري الوحيد كيف سأخرج ولدي من هذه المحنة، فهو سيحتاج إلى قوة هائلة لمواجهة هذا المرض ولن يستمدها إلا مني!

تفاجأ الجميع من صمودي، حتى كنت أرى نظراتهم تتهمني إما بالجنون أو عدم المبالاة، لم أسمح لأحد بزيارته أو الاتصال به وهو في حالة بكاء، أردت توفير بيئة نفسية مريحة إيجابية وداعمة له، خاصة أن شخصيته مرحة.

لذا، كنا نقضي وقتنا في المستشفى بسماع المقاطع المضحكة على اليوتيوب والضحك، أفهمته بأن وضعه مؤقت وأنه سيتحسن مع العلاج والعملية المقبلة بإذن الله.

حان موعد العملية الثانية والتي استغرقت خمس ساعات، مرت كأنها دهر، لكن ولله الحمد تبين أن نوع الورم حميد ويسمى بخبيث الموقع. استطاع الأطباء استئصال 2سم منه فقط، وبدأ إسلام يميز وجود الضوء من عدمه، أخبرنا الأطباء بأن الغدة الدرقية تأثرت وسيأخذ علاجا لها مدى الحياة ... لكنها عادت للعمل بشكل طبيعي بعد عدة أشهر.

بعد عشرة أيام من العملية، راجعنا طبيبة الأورام للاطلاع على خطة العلاج الكيماوي، وفي ذلك اليوم صارحت الطبيبة إسلام بأنه لن يعود للرؤية مجدداً!

تخيلوا حجم الصدمة لطفل بهذا العمر! بكى كثيراً وبدأ يسألني: ماما لن أراكم مجدداً؟ ماما لن أرى وجه أخي الصغير؟ لن أراه عندما يكبر؟ لن أرى الألوان؟

ما كان مني إلا وأقسمت له: أقسم لك يا أمي بأنك سترى، سترى الألوان وسترى إخوتك، يا ماما أنت مصاب بورم حميد، هناك الكثير من المصابين بأورام خبيثة تم شفاؤهم، ألن يكون الله قادراً على شفائك؟ الأطباء يفهمون لغة التقارير والأوراق ونحن نفهم قدرة الله سبحانه وعظمته.

سألني: كيف سأتزوج؟ كيف سأدرس؟ طمأنته وأخبرته بأن لا شيء سيتغير، أنا معك وبابا والعائلة بأكملها، سأكون عيونك وأي شيء تريده سنفعله معاً.

بدأت مهمتي كأخصائية، الآن أصبح لوظيفتي معنى آخر...

خلال أسبوع واحد أصبح إسلام مستقلاً بذاته في البيت، صادف ذلك عيد الفطر... أول عيد بعد فقدانه لبصره، كان رافضاً في البداية الخروج من المنزل لكني أقنعته بالخروج خصوصاً أننا سنذهب لأماكن يعرفها واعتدنا الذهاب إليها.

رغم كل محاولاتي بدأ يدخل في مراحل من الاكتئاب والانسحاب الاجتماعي ونوبات الصراخ والبكاء، فكرت كثيراً وخطرت في بالي السوشال ميديا فقد يكون لها أثر إيجابي وهذا ما حدث فعلاً، أنشأت له صفحته الخاصة وأصبح لديه متابعين كثر من جميع أنحاء العالم يرسلون له الرسائل الإيجابية ويسألون عنه. كانت طريقة جيدة للتعبير عن ذاته دون خجل وكان لها أثر كبير خصوصاً من الرسائل الصوتية التي كانت تصله من المتابعين.

مع أنني واجهت رفضاً من العديد وهناك من اتهمني بأنني أحب جلب الشفقة على ابني، لكني لم أعرهم اهتماماً فأنا والدته وأدرى بمصلحته.

بدأنا جلسات العلاج الكيماوي الشهرية، لم أسمح لأي أحد أن يكلمه عن عذابات الكيماوي، وحولت هذا اليوم إلى نزهة...

قبل الجلسة نتناول وجبة الإفطار في المطعم وخلال الجلسة يكون ببث مباشر على السناب تشات يكلم متابعيه ويضحك معهم ... بعد الجلسة نذهب في زيارة لمنزل الجدة والعشاء على شرف إسلام باختياره أيضاً.

لدعم إسلام وتحفيزه على الاستقلال بشكل أكبر قمت بالاستعانة بشخصية داعمة، دكتور كفيف يعمل في الجامعة الأردنية كانت لقصة نجاحه وتميزه الأثر الكبير، فتح لنا آفاق كبيرة وعلمنا كيف يستخدم الكفيف الأنظمة الناطقة الخاصة للمكفوفين للتعامل مع الحاسوب والموبايل، وقدم لنا الكثير من الإرشادات والنصح.

تزامن ذلك مع بداية العام الدراسي... ألحقته بالأكاديمية الملكية للمكفوفين، لم أتركه وداومت معه الشهر الأول حتى يشعر بالأمان في مكان جديد عليه، أخبرت المعلمين بوضعه الصحي وكيفية التصرف عند أي طارئ، وبدأت بالانسحاب التدريجي، في الأسبوع الأول كنت معه في الغرفة الصفية وفي الأسبوع الرابع اقتصر وجودي عند بداية ونهاية اليوم الدراسي فقط.

خلال هذه الفترة، ساعدت إسلام في التعرف على مرافق المدرسة، وتأكدت من حفظه لها حتى يتنقل بشكل مستقل، عقدت الأكاديمية دورة لتعليم طريقة القراءة والكتابة برايل للمعلمين الجدد، التحقت بها وتعلمتها وكل ما كنت اتعلمه أعلمه لإسلام في المنزل وبدأنا ندرسها معاً.

بعد انتهاء جلسات الكيماوي أعلن الأطباء نجاحهم في السيطرة على الورم والبدء بسحب الأدوية بشكل تدريجي، وبدأ اسلام يرى الخيالات والألوان القوية إن كانت قريبة من العين ولله الحمد.

بعد وصولنا لمرحلة من الاستقرار ونجاح إسلام في التكيف مع وضعه الحالي ومن واقع تجربتي، فكرت في باقي أمهات المكفوفين، واللاتي جاهدن وما زلن في طريق تربية ابنائهن، ومع تهميش قضية المكفوفين وعدم وجود جهة تقدم للأسر الدعم اللازم والمشورة، قررت بأن أغير واقع باقي الأطفال وأن أنقل نجاحي مع طفلي لهم، فهم بأمس الحاجة لتقديم الدعم اللازم (النفسي والاجتماعي والتأهيلي والمادي أيضاً).

بدأت بفكرة مبادرة أمهات النور والتي قامت على فكرة مجموعات الدعم على جروب في الواتساب لتبادل الخبرات وتقديم المشورة اللازمة، بدأنا بـ 20 أم لطفل كفيف. وفي غضون شهر واحد أطلقناها مبادرة تطوعية على أرض الواقع تعنى بالطفل الكفيف وأسرته.

ومع أهمية اهدافنا وإقبال الأمهات على المبادرة، استطعنا الوصول إلى 180 من أمهات المكفوفين من جميع المحافظات، عندها وجدت أنه من الضروري تحويل هذه المبادرة لجمعية رسمية.

وكان هذا ما حدث، تمت الموافقة على الجمعية وأصبحت تابعة لوزارة التنمية الاجتماعية في الأردن، باسم "جمعية أمهات النور لدعم وتأهيل أسر المكفوفين" أترأسها أنا ومجموعة من أمهات المكفوفين المحاربات.

لم أشعر بنجاحي فعلاً إلا عندما توجه ابني إسلام لي يوماً بعد نشاط اقمناه لأطفال الجمعية وقال لي: "ماما بتعرفي أنا حاسس إنه ربنا أصابني بهذا المرض عشان أكون سبب لسعادة غيري!."

شعرت بأن الدنيا لم تسعني من الفرحة وكأني ملكت الدنيا وما فيها وقررت أن أكمل طريقي حتى آخر رمق.

ومن خلال جمعيتنا تعرف إسلام على فن جديد من الفنون الأدبية اسمه فن الهايكو أبدع فيه وتمت مشاركة نصوصه وترجمتها على مستوى العالم وأصبح بشكل رسمي أصغر هايكست في الوطن العربي، بشهادة معتمدة من جمعية برايل في فرنسا، حيث أُخذ نص من نصوصه وأصبح الشعار للمسابقة العالمية لشعر الهايكو.

كم أنا فخورة بك يا ابني!

أدعوكم لزيارة صفحة الجمعية على الفيسبوك ورؤية الانجازات، وزيارة صفحة إسلام والتي تحمل اسمه "إسلام حداد محارب السرطان".

مواضيع قد تهمك

الأكثر شعبية